مقالة للأديبة بجريدة الراي
أنــا حُــــرَّة..!
حرية المرأة" شعار تغنت به المؤسسات الثقافية ذات التوجه الليبرالي المتطرف دون اعتبار لنمط تفكير المجتمع المسلم وتركيبة المرأة النفسية وطبيعة علاقتها بالرجل.
فما نوع الحرية؟ وما هي حدودها؟ ماهيتها؟ قضية تناولها الأدباء عبر رواياتهم الأدبية في مطلع الستينات من القرن الماضي بشيء من الموضوعية والحياد، وأكثر من كتب في قضايا المرأة وصراعاتها النفسية والاجتماعية الروائي الراحل (إحسان عبد القدوس) إذ تغلغل قلمه إلى نسيج شخصيتها واستقرأ بحذاقة أعماقها وتماهى مع حالاتها وأطوارها ولهذا لقب بكاتب المرأة إذ تصدى في معظم رواياته لمشاكل المرأة وهمومها العاطفية، في مقالي السابق كتبت عن معالجة ذلك الكاتب لمسألة طموح المرأة الذي ينتهي إلى حالة من الفراغ النفسي والفشل الاجتماعي في رواية (ونسيت أني امرأة) وفي هذا السياق أحدثكم عن رواية أخرى لذات الكاتب عنوانها (أنا حرة) والتي تعكس ثقافة جديدة غزت المجتمع المصري أيام الاستعمار الانجليزي والتداعيات الثقافية والفكرية لهذا الاحتلال وكيف قيم الكاتب تجربة فتاة تبنت مبدأ الحرية بمفهومها الخاطئ، فـ (إحسان عبد القدوس) لم يكن متديناً أو محسوباً على تيار إسلامي معين إنما كاتب واقعي رصد المتغيرات السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري وإسقاطات حركات التحرير على المرأة المصرية فانتقدها بحيادية مطلقة.
فـ (سميحة) بطلة رواية "أنا حرة" فتاة بسيطة تعيش مع عمتها بعد انفصال والديها في حي شعبي من أحياء القاهرة، كانت سميحة تتردد باستمرار على حي العباسية حيث تقطن الجاليات اليهودية وقد انبهرت بتقاليدهم المتحررة وانفتاحهم الجريء على الغرب والحرية التي تتمتع بها فتياتهم، تأثرت سميحة بثقافتهم فأخذت تتمرد على ضغوط عمتها الصارمة وترفض التقاليد التي ترغم الفتاة على الزواج المبكر ولا تسمح لها أن تدخل الجامعة بل وتفرض عليها ثياباً محتشمة، فكانت تقارن بين حي العباسية حيث الحياة الصاخبة البراقة ومجتمعها البدائي الذي يقمع المرأة ففكرت أن تتحرر من هذه القيود وتتمرد على التقاليد ففعلت كل ما تشتهي من الملذات الممنوعة والمستنكرة عرفياً كارتداء الثياب الشبه عارية ومخالطة الشباب بحرية ورقصت وعربدت كما هن فتيات حي العباسية المتحررات، بينما عمتها تزداد سخطاً وتذمراً واستنكاراً مما دفعها أن تترك عمتها لتلتحق بأبيها، حيث دخلت الجامعة وتخرجت ثم تبوأت منصباً مرموقاً وفسخت خطبتها من الشاب الذي تقدم إليها لأنه غيور قد أرغمها على ترك الوظيفة وبررت رفضها له أنها حرة، لكنها لم تكن سعيدة أبداً، كانت تعيش صراعاً داخلياً مزمناً فما حسبته انتصاراً على التخلف والقيود تحول إلى سجن وعزلة والأسوأ شعورها بالفراغ العاطفي وضميرها الذي يسوطها كلما وضعت رأسها على الوسادة، (أهذه الحرية التي تبحثين عنها يا سميحة!!) وبعد سنوات صادفت (عباس) جارها في الحي القديم، شاب وطني صاحب مبادئ، كافح الاستعمار عن وطنية وإيمان فمنذ لقائهما الأول وهو يوجه مسارها في الاتجاه الصحيح ويحذرها من الدرب الشائك المنزلقة فيه، أحسته صادقاً في مبادئه فهو الوحيد الذي خاطب عقلها واحترم إنسانيتها وكان لها بمثابة جرس الإنذار الذي يفرمل اندفاعها، إلتقته صدفة بعد أن افترقا سنوات، حيث أسس جريدة وطنية ومارس نشاطاً سياسياً ثورياً، وجدت سميحة ذاتها في عباس (الفكر، المبدأ، العقيدة) وفهمت المعنى الحقيقي للحرية فشاركته النضال ضد الاستعمار الانجليزي بعد أن انتمت إليه فكراً وروحاً وقلباً، بعد فترة قبض عليهما البوليس السياسي وألقاهما في السجن، وفي السجن تزوجا هنا أدركت سميحة أن ما ظنته حرية في الماضي لم يكن إلا سراباً، فالحرية الحقيقية أن يكون لك هدف وقضية تكافح من أجلها في الحياة، فبرغم السجن كانت سعيدة جداً ومنسجمة مع ذاتها.
فخلف القضبان نعرف أية حرية نريد؟!!